مشاهد متنافرة....من زحام القاهرة
المشهد الأول
خرجتْ أم سعيد من أقصى أطراف الحى الشعبى
العتيق بقلب القاهرة والمسمّى ( حى بولاق )
وقد سحبتْ طفلها الصغير سعيد ، والذى بلغ
الخامسة من عمره ، وعلى ذراعها الآخر حملتْ
طفلها الرضيع ، وسارتْ فى ذلك الحىّ الذى
جمع كل طبقات المجتمع المتناقضة ، فودّعتْ
حارتها الصغيرة بالثلث الشعبى الذى سكنه
العمال وصغار الموظفين ، وامتلأ بالشباب
العاطل ، ومظاهر التشدد الدينى ، والإدمان
للمخدرات ، وكل مظاهر الانحراف الإنسانىّ ،
ثم اتجهتْ إلى الشارع العمومى ؛ والذى تقطنه
الطبقات المتوسطة حيث يسكن الأطباء
والمعلمون وصغار التجار ، ومازالتْ تسيرُ
هائمةً بين التناقضات الطبقية حتى وصلتْ إلى
الثلث الآخير الثرى ووقفتْ تنتظرُ العربة
( الأتوبيس ) المتجه إلى حى العجوزة الراقى ،
وقد امتلأ المكانُ حولها على مدخل حى بولاق
بكل مظاهر البذخ ، والأبراج الشاهقة التى
حجبتْ نهر النيل عن غيرها ، فهاك مبنى
التلفزيون المصرى ، وتلك وزارة الخارجية ،
وذلك فندق الهيلتون ، وذلك شابٌ ثرىٌّ يسيرُ
بكلبه ؛ ليخيفَ به السائرين !...
ثم ركبتْ عربة الفقراء ( الأوتوبيس )
وبجوارها طفلها سعيد ، والذى جُرِحتْ قدماه
الحافية من الأحجار الملقاة على جانبى الطريق
، وقد أخذ يحملقُ فى أقدام الناس ، ويحلمُ بأنْ
يرتدىَ ذات يومٍ حذاءً ، ولكن هيهات !!!...
المشهد الثانى
دخلتْ أم سعيد منزل شقيقتها الثرية ، التى
تزوّجتْ من رجل أعمال مسن ، وقد ظهر على
أختها مظاهر الراحة المادية فى وجهها
الوردىّ ، على عكس أم سعيد التى ذبل وجهُها
، من آثار الفقر اللعين ، ثم طلبتْ أم سعيد من
أختها لو تكلّم زوجها الثرىّ ؛ ليوفرَ أى عملٍ
لزوجها العاطل منذ شهرين ، فطأطأتْ شقيقتُها
رأسها بكبرٍ ، ثم قالتْ : سنرى ذلك ....
وأرادتْ أم سعيد الانصراف ، واستحتْ أن تطلبَ
أى معونةٍ ماديةٍ من أختها ، لكن أختها طلبتْ
منها لو تساعدُها فى تنظيف المنزل ؛ لأنَّ
الخادمة زوجة البواب ، قد تأخرتْ اليوم ، رغم
أنها تسكن فى قاع المنزل (البدروووم )
فاضطرتْ أم سعيد إلى تنظيف منزل أختها ،
وأخذتْ تمسحُ بلاطه بدموع المهانة وذلّ
الحاجة ، ولم تمضِِِِِ ساعةٌ ؛ حتى حضرتْ
الخادمة زوجة البواب ،فأرادتْ أم سعيد
الانصراف ، لكن الخادمة أشفقتْ على الطفل
سعيد الذى يسير حافياً مجروح القدمين ،
فنزلتْ بسرعة إلى شقتها بأسفل المبنى تحت
الأرض ( البدروم ) ، وأحضرتْ حذاءً قديماً من
أحذية ابنها المتهالكة ، فأعطته لسعيد الذى
وصلت فرحته لأعنان السماء ، عندما ارتدى
ذلك الحذاء القديم البالى....
المشهد الثالث
سار الطفلُ سعيد فرِحاً متباهياً ، بحذائه البالى
القديم ، وأخذ يحاولُ لفت نظر المارة فى حى
العجوزة الراقى بحذائه الذى يرتديه ، ثم ركب
مع أمه عربة الفقراء ( الأوتوبيس ) عائدين
لمنزلهم فى الحارة البعيدة فى أقصى حى بولاق
، ولكن ...آه من رحلة العودة ، فلقد كانتْ
العربة تمتلأُ عن آخرها ، ووقفتْ أم سعيد
منهكةًً من الزحام الشديد ، وأخذ طفلها
الرضيع يصرخُ باكياً ، واختفى سعيد تحت
الأقدام الكثيرة ، بينما جلس شابٌ ، وقد غاب
عن الوعى ، ووضع سماعة المحمول فى أذنيه
، ولم تسمعْ أذناه صراخ ذلك الرضيع المسكين
، ومازالتْ أم سعيد تهدئُ من رضيعها الذى
أزعج الواقفين ، بينما هناك شابٌ آخر قد نظّم
شعره كالإناث ، وجلس محملقاً بعينيه فى
محموله ، يفتحُ فيه صفحات النت ، وعمتْ
عيناه أن ترى تلك المرأة البائسة التى تحملُ
رضيعاً ؛ ليُجلسَها مكانه !...وهذا رجلٌ فى
منتصف الثلاثين ، قد جلس وقد فتح جريدته ؛
ليحلَّ مابها من الكلمات المتقاطعة ، ولم يلتفت
لما تحويه من أخبار الخلاف بين الأشقاء ،
فكيف يصحو ضميره ؛ ليُجلِسَ تلك المرأة
المنهكة ، وكلما سارتْ العربة ، يركبُ أناسٌ
آخرون ؛ ليزدادَ الزحامُ ، وتعمَّ الفوضى ،
وتشتدَّ عصبيةُ الواقفين ، وفى الخلف شيخٌ كبيرٌ
قد فتح مصحفه ، وعاش فى تواصلٍ مع الله -
تعالى - أزهده عن الدنيا ومطامعها ، وبدأتْ أم
سعيد تئِنُّ من ذراعها الذى تعب من حمل
الرضيع ، وتنظرُ بحسرةٍ إلى هؤلاء الشباب ،
وقد انعدمتْ فيهم روحُ الشهامة ، ولاتدرى من
اغتال فيهم نخوة الرجال ، وتوقّفتْ العربة ربع
الساعة ؛ لمرورعربة أحد المسئولين فى
سيارته الفاخرة ، لايدرى بآلام من
فى الأوتوبيس ، رغم أنَّه مسئولٌ عن توفير
راحتهم...!!
ثم انطلق الأوتوبيسُ مرة أخرى ؛ ليعبرَ
فوق المطبات الصناعية الكثيرة ، والتى
تهزُّ الواقفين بعنفٍ ؛ لتدوسَ الأقدام ذاك
الضعيف الذى يسقط مع الهزات، وإذا بأحد
الرجال يدوسُ قدم الطفل سعيد ؛ فينفصلَ حذاؤه
الأيمن عن قدمه ، ويتدحرج رويداً رويداً بأقدام
الحشود الواقفة ، ويقع الحذاء خارج العربة من
بابها المفتوح ، بينما تنطلق العربة ، وسط
ذهول سعيد !!!..ولم يتمالكْ الطفلُ سعيد نفسه
من البكاء الذى وصل للنحيب ، كمن مات أبوه
، وتركه يتيماً يواجهُ الحياة وحيداً !!..
وتحوّلتْ مشاعرُ الناس بين التعجب والشفقة ،
وبين العطف والانزعاج من نحيبه الذى امتزج
بصراخ شقيقه الرضيع ، مكوِّناً عزفاً حزيناً من
الموسيقا الجنائزية ، وقد حاول أحدُ الطيبين
إخراج بعض النقود ؛ ليعطيها للطفل الباكى ؛
كى يشترىَ حذاءً جديداً ، فرآه أحدُ اللصوص
الصعاليك ، فأخذ ما فى جيبه دون أن يشعرَ
بذلك ، فصرخ الرجل المسروق ، فالتفت له
الناسُ ، ونسوا نحيب الطفل سعيد ...
ووصلتْ العربة ( الأوتوبيس ) لحى بولاق ،
أمام مبنى التلفزيون المصرى ، وقد خرج منه
بعض الممثلين ، والذين بدتْ على وجوههم
مظاهرُ البذخ ، واستأنفتْ أم سعيد سيرها ،
وهى تحمل طفلها الرضيع الذى يصرخ من ظلم
الإنسان ، وتجر باليد الأخرى طفلها الباكى
سعيد ، والذى سار كالأعرج ، حيث يرتدى
الحذاء الأيسر ، وأما يمناه فحافية امتلأتْ
بالدماء والجروح .....
تمت بحمد الله
بقلمى
سمير البولاقى
مدرس لغة عربية بمدرسة الملك الصالح الثانوية
ملحوظة : أرجو من الأخوة الكرام الذين ينقلون قصصى إلى منتديات أخرى ؛ بأن يكتبوا أسفل قصصى كلمة ( منقول ) منعاً للإحراج حيث إننى أتابع قصصى على كل مواقع البحث ، و إن كل قصصى مسجلة بكل الطرق القانونية ؛ لضمان حفظ حقوقى الأدبية....وللجميع تحياتى ...
المشهد الأول
خرجتْ أم سعيد من أقصى أطراف الحى الشعبى
العتيق بقلب القاهرة والمسمّى ( حى بولاق )
وقد سحبتْ طفلها الصغير سعيد ، والذى بلغ
الخامسة من عمره ، وعلى ذراعها الآخر حملتْ
طفلها الرضيع ، وسارتْ فى ذلك الحىّ الذى
جمع كل طبقات المجتمع المتناقضة ، فودّعتْ
حارتها الصغيرة بالثلث الشعبى الذى سكنه
العمال وصغار الموظفين ، وامتلأ بالشباب
العاطل ، ومظاهر التشدد الدينى ، والإدمان
للمخدرات ، وكل مظاهر الانحراف الإنسانىّ ،
ثم اتجهتْ إلى الشارع العمومى ؛ والذى تقطنه
الطبقات المتوسطة حيث يسكن الأطباء
والمعلمون وصغار التجار ، ومازالتْ تسيرُ
هائمةً بين التناقضات الطبقية حتى وصلتْ إلى
الثلث الآخير الثرى ووقفتْ تنتظرُ العربة
( الأتوبيس ) المتجه إلى حى العجوزة الراقى ،
وقد امتلأ المكانُ حولها على مدخل حى بولاق
بكل مظاهر البذخ ، والأبراج الشاهقة التى
حجبتْ نهر النيل عن غيرها ، فهاك مبنى
التلفزيون المصرى ، وتلك وزارة الخارجية ،
وذلك فندق الهيلتون ، وذلك شابٌ ثرىٌّ يسيرُ
بكلبه ؛ ليخيفَ به السائرين !...
ثم ركبتْ عربة الفقراء ( الأوتوبيس )
وبجوارها طفلها سعيد ، والذى جُرِحتْ قدماه
الحافية من الأحجار الملقاة على جانبى الطريق
، وقد أخذ يحملقُ فى أقدام الناس ، ويحلمُ بأنْ
يرتدىَ ذات يومٍ حذاءً ، ولكن هيهات !!!...
المشهد الثانى
دخلتْ أم سعيد منزل شقيقتها الثرية ، التى
تزوّجتْ من رجل أعمال مسن ، وقد ظهر على
أختها مظاهر الراحة المادية فى وجهها
الوردىّ ، على عكس أم سعيد التى ذبل وجهُها
، من آثار الفقر اللعين ، ثم طلبتْ أم سعيد من
أختها لو تكلّم زوجها الثرىّ ؛ ليوفرَ أى عملٍ
لزوجها العاطل منذ شهرين ، فطأطأتْ شقيقتُها
رأسها بكبرٍ ، ثم قالتْ : سنرى ذلك ....
وأرادتْ أم سعيد الانصراف ، واستحتْ أن تطلبَ
أى معونةٍ ماديةٍ من أختها ، لكن أختها طلبتْ
منها لو تساعدُها فى تنظيف المنزل ؛ لأنَّ
الخادمة زوجة البواب ، قد تأخرتْ اليوم ، رغم
أنها تسكن فى قاع المنزل (البدروووم )
فاضطرتْ أم سعيد إلى تنظيف منزل أختها ،
وأخذتْ تمسحُ بلاطه بدموع المهانة وذلّ
الحاجة ، ولم تمضِِِِِ ساعةٌ ؛ حتى حضرتْ
الخادمة زوجة البواب ،فأرادتْ أم سعيد
الانصراف ، لكن الخادمة أشفقتْ على الطفل
سعيد الذى يسير حافياً مجروح القدمين ،
فنزلتْ بسرعة إلى شقتها بأسفل المبنى تحت
الأرض ( البدروم ) ، وأحضرتْ حذاءً قديماً من
أحذية ابنها المتهالكة ، فأعطته لسعيد الذى
وصلت فرحته لأعنان السماء ، عندما ارتدى
ذلك الحذاء القديم البالى....
المشهد الثالث
سار الطفلُ سعيد فرِحاً متباهياً ، بحذائه البالى
القديم ، وأخذ يحاولُ لفت نظر المارة فى حى
العجوزة الراقى بحذائه الذى يرتديه ، ثم ركب
مع أمه عربة الفقراء ( الأوتوبيس ) عائدين
لمنزلهم فى الحارة البعيدة فى أقصى حى بولاق
، ولكن ...آه من رحلة العودة ، فلقد كانتْ
العربة تمتلأُ عن آخرها ، ووقفتْ أم سعيد
منهكةًً من الزحام الشديد ، وأخذ طفلها
الرضيع يصرخُ باكياً ، واختفى سعيد تحت
الأقدام الكثيرة ، بينما جلس شابٌ ، وقد غاب
عن الوعى ، ووضع سماعة المحمول فى أذنيه
، ولم تسمعْ أذناه صراخ ذلك الرضيع المسكين
، ومازالتْ أم سعيد تهدئُ من رضيعها الذى
أزعج الواقفين ، بينما هناك شابٌ آخر قد نظّم
شعره كالإناث ، وجلس محملقاً بعينيه فى
محموله ، يفتحُ فيه صفحات النت ، وعمتْ
عيناه أن ترى تلك المرأة البائسة التى تحملُ
رضيعاً ؛ ليُجلسَها مكانه !...وهذا رجلٌ فى
منتصف الثلاثين ، قد جلس وقد فتح جريدته ؛
ليحلَّ مابها من الكلمات المتقاطعة ، ولم يلتفت
لما تحويه من أخبار الخلاف بين الأشقاء ،
فكيف يصحو ضميره ؛ ليُجلِسَ تلك المرأة
المنهكة ، وكلما سارتْ العربة ، يركبُ أناسٌ
آخرون ؛ ليزدادَ الزحامُ ، وتعمَّ الفوضى ،
وتشتدَّ عصبيةُ الواقفين ، وفى الخلف شيخٌ كبيرٌ
قد فتح مصحفه ، وعاش فى تواصلٍ مع الله -
تعالى - أزهده عن الدنيا ومطامعها ، وبدأتْ أم
سعيد تئِنُّ من ذراعها الذى تعب من حمل
الرضيع ، وتنظرُ بحسرةٍ إلى هؤلاء الشباب ،
وقد انعدمتْ فيهم روحُ الشهامة ، ولاتدرى من
اغتال فيهم نخوة الرجال ، وتوقّفتْ العربة ربع
الساعة ؛ لمرورعربة أحد المسئولين فى
سيارته الفاخرة ، لايدرى بآلام من
فى الأوتوبيس ، رغم أنَّه مسئولٌ عن توفير
راحتهم...!!
ثم انطلق الأوتوبيسُ مرة أخرى ؛ ليعبرَ
فوق المطبات الصناعية الكثيرة ، والتى
تهزُّ الواقفين بعنفٍ ؛ لتدوسَ الأقدام ذاك
الضعيف الذى يسقط مع الهزات، وإذا بأحد
الرجال يدوسُ قدم الطفل سعيد ؛ فينفصلَ حذاؤه
الأيمن عن قدمه ، ويتدحرج رويداً رويداً بأقدام
الحشود الواقفة ، ويقع الحذاء خارج العربة من
بابها المفتوح ، بينما تنطلق العربة ، وسط
ذهول سعيد !!!..ولم يتمالكْ الطفلُ سعيد نفسه
من البكاء الذى وصل للنحيب ، كمن مات أبوه
، وتركه يتيماً يواجهُ الحياة وحيداً !!..
وتحوّلتْ مشاعرُ الناس بين التعجب والشفقة ،
وبين العطف والانزعاج من نحيبه الذى امتزج
بصراخ شقيقه الرضيع ، مكوِّناً عزفاً حزيناً من
الموسيقا الجنائزية ، وقد حاول أحدُ الطيبين
إخراج بعض النقود ؛ ليعطيها للطفل الباكى ؛
كى يشترىَ حذاءً جديداً ، فرآه أحدُ اللصوص
الصعاليك ، فأخذ ما فى جيبه دون أن يشعرَ
بذلك ، فصرخ الرجل المسروق ، فالتفت له
الناسُ ، ونسوا نحيب الطفل سعيد ...
ووصلتْ العربة ( الأوتوبيس ) لحى بولاق ،
أمام مبنى التلفزيون المصرى ، وقد خرج منه
بعض الممثلين ، والذين بدتْ على وجوههم
مظاهرُ البذخ ، واستأنفتْ أم سعيد سيرها ،
وهى تحمل طفلها الرضيع الذى يصرخ من ظلم
الإنسان ، وتجر باليد الأخرى طفلها الباكى
سعيد ، والذى سار كالأعرج ، حيث يرتدى
الحذاء الأيسر ، وأما يمناه فحافية امتلأتْ
بالدماء والجروح .....
تمت بحمد الله
بقلمى
سمير البولاقى
مدرس لغة عربية بمدرسة الملك الصالح الثانوية
ملحوظة : أرجو من الأخوة الكرام الذين ينقلون قصصى إلى منتديات أخرى ؛ بأن يكتبوا أسفل قصصى كلمة ( منقول ) منعاً للإحراج حيث إننى أتابع قصصى على كل مواقع البحث ، و إن كل قصصى مسجلة بكل الطرق القانونية ؛ لضمان حفظ حقوقى الأدبية....وللجميع تحياتى ...